Facebook RSS
ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ï؟½ رسالتنا ارسل مقالاً اتصل بنا

عرفات والمخاطبة

يكتب أحمد عبدالرحمان عن الخالد ياسر عرفات وأسلوبه بالمخاطبة وأهدافه أنه كان يريد لمكلّفيه أو لفريقه المؤتمن على قضيته الوطنية (أن يكون مشحونا بالقلق والجاهزية والمتابعة والمثابرة على مدار الساعة، وهو يستطيع من صوت المتكلم ومن مضمون كلامه أن يقرّر ما إذا كان التركيز ودقة الانتباه قد وصلت الى الدرجة التي تؤدي الى اطمئنانه بأن الشخص المكلّف بالمهمة الوطنية قد حقق نقلة نوعية...)-أحمد عبدالرحمان، عرفات حياته كما أرادها، دار الحرية للثقافة،فلسطين-رام الله،٢٠١٦ ص٢٦٨
#لنتفكر

محاضرة: مصطلح رؤية العالم (والأسئلة الفلسفية الكبرى)

eye world
نشر بتاريخ: 17/06/2011

 مصطلح رؤية العالم 

 

 

 تأليف/ كليمنت فيدال ترجمة/ أحمد بركات

يضرب اصطلاح "رؤية العالم" بجذوره التاريخية إلى زمن بعيد حيث يمكننا أن نؤرخ له تحديدا بكتابات الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" (1724ـ 1804)، وعلى عكس ما هو شائع فإن استخدام هذا المصطلح لا يقتصر على الفلسفة وحدها بل يتجاوزها إلى فضاءات أخرى عديدة تشمل: علوم اللاهوت والأنثربولوجي والتربية..إلخ، وقد قدم "ديفيد نوغل" في كتاباته عرضا لتاريخ رؤية العالم وشدد على ما له من مركزية وأهمية.

ورغم ذلك، فإن اصطلاح "رؤية العالم" عادة ما يستخدم بغير دلالة واضحة ومفهوم محدد؛ وتبقى التساؤلات: ما معنى "رؤية العالم؟"، و"كيف يمكننا تعريفه؟" بغير إجابة قاطعة. لقد اختلف في تحديد ماهيته حتى داخل حدود الفضاء الفلسفي فهناك اختلافات واضحة في تعريفه بين: كانط وهيجل وكيركجارد وديلثي وهوسرل وجاسبر وهيدجر وغيرهم من الفلاسفة؛ وهذا البحث ليس معنيا بعقد مقارنات منهجية بين هذه التعريفات المتباينة،

وإنما سينصب تحليلنا، في الجزء الأول، على التعريف الواضح والمحدد الذي قدمه "ليو أبوستل" و"جان فاندر فيكين"، أما الجزء الثاني فسوف ينطلق من حقيقة مؤداها أن العديد من أسئلتنا الفلسفية العميقة والعتيقة يمكن مقاربتها الآن علميا.

وتواجه محاولة صياغة رؤية شاملة للعالم إشكالية هامة تكمن في تباين اللغات التي تستخدمها التخصصات العلمية المختلفة؛ وتبرز هذه الإشكالية وتصبح ذات دلالة هامة عند الحديث عن الفروق بين العلوم المنضبطة القائمة على الكم من جانب، وبين العلوم الإنسانية من الجانب الآخر، وفي هذا السياق تثور تساؤلات هامة من قبيل: ما هي أنسب الملامح لصياغة رؤية علمية متكاملة للعالم؟ وكيف تُعين هذه الملامح على تقليص الفجوة بين العلوم الكمية والعلوم الإنسانية؟ وقد اقترحنا ثلاث مقاربات للتعاطي مع هذه الإشكالية، وهي: نظرية الأنظمة كلغة عامة للعلم، ومقاربة حل المشكلة، وفكرة التطور بمفهومها الواسع. ونختتم هذا الجزء ببعض الملاحظات عن مُحددات الرؤية العلمية الخالصة للعالم.

أجندة رؤية العالم: ليو أبوستل نموذجا

دائما ما يكتسب الفلاسفة الكبار صفة العظمة من خلال طموحهم وسعيهم الحثيث لبناء أطر فكرية تحاول الإجابة على أغلب تساؤلتنا الفلسفية العميقة، ولعل أحد آخر هذه المساعي هو ما قدمه فيلسوف الوضعية المنطقية "رودولف كارناب"- برغم أن اسمه في الآونة الأخيرة أصبح لا يرد إلا في سياقات نقدية، على أسس لها وجاهتها- فقد حاول أحد تلاميذه، وهو "ليو أبوستل" (1925- 1995)، التمسك بذات الطموح والسعي لنفس الهدف بعيدا عن الفروض الاختزالية والساذجة ل"حلقة فيينا"، مما أدى ب "أبوستل" إلى تكوين مجموعة بحثية منظمة، عُرفت ب "مجموعة رؤى العالم"، وإصدار كتاب، بالتعاون مع "جان فاندر فيكن"، يمكن مقارنته بإعلان "وينر كريس"، ولا يفرق بينهما سوى ما حظي به الأخير من قبول لا يستحقه، وما افتقده الأول من قبول كان جديرا به.

ما هي "رؤية العالم"

ثمة تقاطع واضح بين "الفلسفة" و"رؤية العالم"؛ فالفلسفة، في معناها الواسع وجوهرها العميق تشير إلى رؤية للعالم، كما يتبدى عند الحديث، مثلا، عن فلسفة شعوب"الإنيوي" و"المايا"؛ وقد لخص "فولترز" العلاقة بين كلا المفهومين؛ وسوف نركز في في التعريف الذي سنعرض له لاحقا على ما أسماه "فولترز": "تتويج رؤية العالم للفلسفة"، حيث أن الفلسفة في أسمى تجلياتها لا تعدو أن تكون صياغة رؤية للعالم.

وغالبا ما يستخدم اصطلاح "رؤية العالم" للتأكيد على وجهة نظر شخصية أو تاريخية، وهو بهذا المعنى ينضوي على دلالة سلبية للفيلسوف، لأن الفلسفة في عمومها تقوم على الشرعية الكونية والصلاحية العامة التي لا ترتبط إلا بالتفكير العقلاني المجرد. ولكن، يمكننا أن نُعَرف رؤى العالم الفلسفية بأنها "طبقة" من الرؤى القائمة على أسس عقلانية والتي تهدف إلى تحقيق نوع من الصلاحية الكونية العامة. وسنعرض في الجزء التالي لستة أسئلة تشكل في مجملها تعريفنا الدقيق ل"رؤية العالم"، فضلا عما لها من أهمية خاصة في تكوين أجندة فلسفية دائمة تحدد مجمل المشكلات والقضايا التي تتعاطى معها الفلسفة. فمن خلال "ريشير" يمكننا التمييز بين "الأجندة الإجرائية"، أو ما أطلقنا عليه أسئلة رؤية العالم، من جانب، و"الأجندة الحقيقية"، والتي تتألف من الإجابات المقترحة على هذه الأسئلة، وتمثل  مكونات رؤية العالم، من الجانب الآخر.

أما رؤية العالم كمفهوم فنعرفها على أنها: مجموعة متجانسة من المفاهيم تسمح لنا "بصياغة تصور كوني عام للعالم وفهم لأكبر عدد ممكن من عناصر خبراتنا وتجاربنا."

الأسئلة الفلسفية الكبرى

نعرض في هذا الجزء للأسئلة الست التي تحدد ماهية رؤية العالم، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالأسئلة الفلسفية "الكبرى" و"الأبدية" و"العتيقة". والحقيقة أن الكتاب الذي تشارك على تأليفه كل من "أبوستل" و"فاندر فيكن"، يعرض بمزيد من التفصيل لهذه الأسئلة، كذلك تجدر الإشارة إلى الصياغة المعدلة لهذه الأسئلة، والتي قدمها "هيليفن"، ويشكل الجهدان معا المرجعية التي نعتمد عليها في هذا البحث. وبداية، يمكننا القول بأن المباحث الفلسفية التقليدية تقدم الإجابات عن هذه الأسئلة، كما تبدو في الجدول التالي:
السؤال الأول هو سؤال الوجود (الأنطولوجيا)، أو نموذج الواقع، والذي يمكن التعبير عنه بسؤال "ماذا؟"، وينطوي هذا السؤال على عدد من التساؤلات مثل: ما طبيعة عالمنا الذي نعيش فيه؟ ما هي تركيبته؟ وكيف يتم توظيفه؟ ما علة وجود شيء معين وما علة انتفاء وجود شيء آخر؟ … إلخ.

أما السؤال الثاني فيقدم تفسيرا للمكون الأول: لماذا أصبحت وضعية العالم على ما هي عليه، ولم تتخذ شكلا مختلفا؟ وما هي المبادئ التفسيرية العامة التي يمكن تطويرها؟ كيف نشأ العالم؟ ومن أين؟ والإجابات على مثل هذه التساؤلات لابد أن تكون قادرة على تفسير كيفية وأسباب وجود الظواهر المختلفة؛ ولا يخفى أن نوع هذا التفسير يعتمد على الماضي والأحداث السابقة.

ويأتي السؤال الثالث ليكمل سابقه؛ فإذا كان السؤال الثاني معني بالماضي والأحداث السابقة، فهذا السؤال معني بالمستقبل: إلى أين؟ ما هو مصير الحياة في هذا الكون؟ ويمثل هذا التساؤل مبحث المستقبليات لأنه معني باللواحق والنتائج المستقبلية المحتملة، تلك الاحتمالية التي تحمل في طياتها إمكانات الاختيار بين النتائج والترجيح بين البدائل لتطوير بعضها والدفع بها قدما، وتحاشي الآخر ووضعه جنبا؛ ومن ثم، تأتي أهمية المكون الرابع الذي يؤكد على الجانب القيمي في تساؤلات رؤية العالم.

كيف نثمن الحقيقة الكونية العامة؟ ما الذي ينبغي علينا أن نناضل من أجله؟ ما هو الخير وما هو الشر؟ وما هي غاية الحياة؟ وهي الأسئلة التي تصب في مبحث الأكسيولوجيا (علم القيم) الذي يتضمن الأخلاقيات والأدبيات والجماليات، وعليه، فهذا المكون معني في الأساس بإمدادنا بمجموعة التوجهات والدوافع والأهداف الكامنة وراء الأفعال.

وهنا يأتي دور السؤال الخامس ونظرية الفعل، أو مبحث البراكسيولوجيا (علم السلوك):  كيف ينبغي أن نتصرف؟ وما هي المبادئ العامة التي يجب أن تنتظم في ضوئها أفعالنا؟ ويساعد هذا المبحث على وضع الخطط وصياغة النظريات الكامنة وراء الأفعال موضع التنفيذ بحسب ما يقتضيه الجانب القيمي، ليجسر بذلك الفجوة العميقة بين النظرية والفعل، ويدرأ عن الفلسفة مقولات اللاواقعية والتحليق في آفاق النظرية التي لا تقدم الحلول المباشرة للتساؤلات المركزية الهامة.

ويدور السؤال السادس حول نظرية المعرفة "الإبستمولوجيا": كيف نستطيع صياغة تصورات عن العالم تساعدنا على الوصول إلى إجابات قاطعة للأسئلة الثلاث الأولى؟ كيف يمكننا اكتساب المعرفة؟ أما التساؤلات الأكثر تجريدية مثل: ما هي الأسس التي ينبغي أن تقوم عليها الاستدلالات الصحيحة والبراهين الناجعة؟ ما هي ملامح الحقيقة والاستنتاج والوجود والضرورة... إلخ؟ ـ فتبقى من مباحث علم المنطق أو فلسفة المنطق. كذلك يمكن إضافة إشكالية اللغة إلى هذا المكون: ما هي اللغة التي ينبغي استخدامها لاكتساب المعرفة؟ وما هي حدودها؟

والواقع، أن ثمة سؤال سابع يمكن أن نصفه بالسؤال الكلي الشامل وهو: من أين نبدأ لنستطيع الإجابة على كل الأسئلة السابقة؟ ويدعونا هذا السؤال للوقوف مليا على الإجابات الجزئية التي يقدمها تاريخ الأفكار والحضارات، لاسيما إذا كنا على دراية بمناهجها الفكرية وافتراضاتها الكامنة. وتُعد هذه الخطوة ذات أهمية خاصة لبناء فلسفة العالم. وبشكل عام، فإن الأنثربولوجيا الفلسفية وتاريخ الفلسفة يعملان معا في هذا المستوى الفوقي الشامل، مما يسمح بتحليلات أوسع لتطور رؤى العالم المختلفة.

رؤى العالم المختلفة

ولتوضيح مكونات رؤية العالم، سنعرض لأربع أمثلة مختلفة لرؤى لا تقتصر على الرؤيتين  الدينية والعلمية فحسب، وإنما تأخذ في اعتبارها موضوعات أخرى تتعلق بالبكتريا والمجتمع، وجدير بالذكر أن الرؤيتين العلمية والدينية اللتان نعرض لهما في هذا السياق لا يتعديان أمثلة تبسيطية لا تهدف إلى الدقة في وصف الرؤية بقدر ما تهدف إلى التمثيل وعرض النماذج.

قد يبدو مستغربا تحليل سلوكيات وتفاعلات البكتريا من خلال أحد نماذج رؤية العالم؛ فلنتساءل: ما هو أصغر عنصر يمكن إدراكه يمتلك رؤية للعالم؟ والإجابة: قد تكون البكتريا هي ذاك العنصر؛ وهذا هو أيضا ما ذهب إليه ستيوارت كوفمان بقوله "حاولت من خلال كتابي (أبحاث، 2000) أن أجيب على هذا التساؤل، فاقترحت أن أصغر عنصر هو الذي يستطيع إعادة انتاج نفسه ويمكنه في أحسن الحالات القيام بدورة عمل كاملة بالمعنى الثرموديناميكي، والحقيقة أنني لا أود الخوض في التشعبات الكثيرة التي يمكن أن تنتج عن هذا الاقتراح لأنها رغم أهميتها محيرة وصعبة. ووفقا لهذا التحليل، فإن البكتريا الي تسبح في المكون الجلوكوزي وتؤدي دورات عمل كاملة تُعد عنصرا قائما بذاته، كما أن الجلوكوز يمثل لها قيمة ومعنى، ولو لم نفترض وعيها بهذه الحقيقة؛ وبالطبع، فإن الانتخاب الطبيعي هو المسئول عن هذا الارتباط. غير أن اللغة الغائية ينبغي أن تبدأ عند نقطة ما، وأريد أن أضع هذه النقطة عند بداية الحياة."

كذلك قد يبدو الحديث عن رؤية العالم من خلال المجتمع خطابا مستغربا، غير أن هذا الشعور بالاستغراب قد يزول إذا سحبنا توصيف الكائن الحي على المجتمع. إن هذين المثالين "المتطرفين" يوضحان بجلاء حدود مفهوم رؤية العالم؛ فالبكتريا، كما جاء وصفها بالجدول أعلاه، تعطي نموذجا لرؤية بدائية تبسيطية أقرب للنموذج منها للتصور الحقيقي.

وهنا يثور تساؤل آخر: ما هو الفارق بين رؤية العالم والنموذج؟ ربما تكون الإجابة هي أن "رؤية العالم" تتصف بالشمولية وتنضوي على كل ما يهم الفرد، بينما "النموذج" ملمح أو جانب محدد وجزئي من الظاهرة. وبعبارة أخرى، فإن نموذج رؤية العالم من خلال المجتمع يعبر عن أهمية تحليل هذه الرؤية عبر مستويات أعلى من الكيانات والمؤسسات ذات التحاليل المتوافقة في هذا المستوى، حتى لو كانت صادرة بالكلية عن فرد. وبطبيعة الحال، فإن هذا المستوى من التحليلات لا بد أن يعاد دمجه في النهاية في رؤية العالم الصادرة عن الفرد.

وهكذا، فإن هذه المقاربة لرؤى العالم تربط بطريقة معقدة بين الأسئلة الفلسفية المجردة من جانب والتجربة الشخصية للفرد من الجانب الآخر. وإذا كنا لا نسعى للوصول إلى النموذج الأكثر كمالا للعالم، فإننا نريد أن يكون هذا النموذج مجسدا في الأفراد، لنخلص منه بقواعد نظرية تجعل حيواتنا  وأفعالنا ذوات معنى.

في ضرورة امتلاك رؤية للعالم

في الجزء الخاص ب "الحاجة إلى الفلسفة: البشر بوصفهم باحثين"، يقدم "ريشر" مناقشة تفصيلية، تستند إلى وجهة نظر تطورية، تؤكد أن القوة الحقيقية للبشر تكمن في مقدرتهم على اكتساب وتوظيف معلوماتهم عن العالم، فيقول "لسنا كثيرين وولودين (كالنمل أو الأرضة)، ولسنا أقوياء متوحشين (كأسماك القرش)؛ ولكننا كمخلوقات ضعيفة مضطرين إلى أن نشق طريقنا التطوري في العالم بقوة العقل." إن هذه الحقيقة بدورها تؤدي إلى ضرورة اكتساب المزيد من المعارف، لنتمكن من خلالها من فهم الخصائص المميزة لهذا العالم والتنبؤ بها أيضا؛ ومن ثم فنحن بحاجة إلى صياغة رؤية للعالم وتطويرها.

كذلك، ثمة احتياجات نفسية واجتماعية تجعل من بلورة رؤية جيدة للعالم ضرورة ملحة. ويشير البحث الاجتماعي إلى أن مشاعر عدم الأمان وانعدام الثقة تكون أكثر وضوحا لدى الافراد الذين لا يملكون رؤية دينية أو فلسفية للعالم. وقد وجد علماء النفس المتخصصين في مباحث الشعور الإيجابي تجاه الحياة أن العقائد الدينية تزيد من الإحساس بالسعادة لأنها تضفي معنى على الحياة وشعورا بالأمل والثقة ومنظورا أعمق للآلام وإحساسا بالانتماء إلى كيان أكبر، وإذا تقاعست الفلسفة عن تقديم الإجابات الشافية عن هذه التساؤلات، فإن مباحث أخرى من ثقافتنا سوف تتولى هذه المهمة وتنهض بهذا الدور؛ هذه المباحث هي الأديان، أو- وهذا هو الأخطر- المذاهب أو الأيديولوجيات العلمانية المتطرفة أو التأويلات الأصولية للدين التي تبشر بعقائد لا عقلانية.

وعلى هذا فنحن جميعا بحاجة ماسة إلى رؤية ما للعالم، ولو لم تكن كاملة الوضوح، للتفاعل مع العالم الذي نحيا فيه؛ كما إننا بحاجة عملية أيضا لأن يكون لدينا إجابة ضمنية ما قبل وجودية، ومن ثم، ساذجة لكافة التساؤلات المتعلقة بهذه الرؤية.

الرؤى العلمية للعالم

الرؤية العلمية معنية في المقام الأول بتقديم نموذج للعالم، وبعبارة أخرى تقديم إجابات للأسئلة الثلاث الأولى، وتخضع هذه الرؤية لشرطين أساسيين، أولهما قوة تفسيرية تنطلق من قاعدة ثابتة، وثانيهما تقوم على دعم ملاحظي وتجريبي.

ويُشترط في هذه القوة التفسيرية أن تتسم بخصائص عدة، مثل القدرة على التنبؤ والربط بين ما يستجد من نظريات وبين فروع العلم المختلفة. ومن جانب آخر يتطلب البعد التجريبي صياغة التنبؤات بطريقة تسمح بوضعها على المحك واختبار صدقها أو زيفها، حيث يؤدي ذلك إلى رؤية نقدية واقعية للعالم، "تؤمن بقدرة النشاط التجريبي على هدايتنا إلى حقيقة الطبيعة."

وقد شهدت العقود القليلة الماضية تقدما ملحوظا في ميدان النشاط العلمي حيث تزايدت أعداد الأبحاث في الدوريات العلمية؛ وصاحب هذا التضخم المعلوماتي انتشار للعديد من الفروع العلمية المستحدثة، مما أدى إلى مزيد من التخصص الدقيق وجعل المشهد العلمي أكثر تشظيا. ويتعاطى هذا الجزء من البحث مع إشكالية التجسير بين هذه العلوم المختلفة من منظور صياغة رؤية للعالم، وهنا يبرز السؤال: ما هي المفاهيم التي ينبغي التأكيد عليها لصياغة رؤية علمية للعالم تستطيع أن تقلص الهوة بين العلوم المختلفة؟

وبرغم ما يستحقه هذا التساؤل من الكثير من التحليل والتطوير، فإننا نزعم أن ثمة ثلاث مقاربات علمية عامة تمثل المدخل الأساس في هذا السياق: نظرية الأنظمة التي تسعى للوصول إلى لغة عامة للعلوم، والمنظور حل المشكلة، ومنهجية التطور بمدلولها الواسع.

أ‌-    نظرية الأنظمة كلغة عامة للعلوم:

هل من الممكن أن يكون هناك لغة عامة للعلوم؟ اشتهر الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني "لايبنتس" (1646 ـ 1716) ببرنامجه الطامح للوصول إلى لغة عامة للعلوم scientia universalis ، والتي تتألف من نظامين يتسمان بالعمومية والشمول، هما: النظام الترميزي والنظام الاستنتاجي؛ وبرغم منطقية هذه المقاربة التي تتميز بالوضوح والدقة، فإنها لم تتخلص من علة المنطق الكلاسيكي الذي لا يعبأ بالبعد الزمني. ولأن عالمنا مُستغرَق في الزمن، فعلينا أن نعي ديناميكيته. ولكن، وبرغم استخدام  النماذج الديناميكية الرياضية منذ زمن بعيد، وحتى يومنا هذا، في مجال العلوم، إلا أنها لم تثبت بعد أية فعالية أو كفاءة عند التعامل مع الأنظمة المعقدة.

وتهدف نظرية الأنظمة العامة والسيبرنتيكا (علم الضبط) إلى اقتراح لغة ديناميكية عامة للعلوم من خلال تقديم أدوات عامة للنمذجة (مثل مقاربة الحالة ـ المكان) فضلا عن بعض التصورات كالنظام والتغذية الراجعة ... إلخ التي يمكن تطبيقها بذات القدر في فروع مختلفة كالفيزياء والكيمياء والأحياء وعلم النفس والاجتماع ... إلخ. وقد اثبتت هذه التصورات فعاليتها، حيث تم تطبيقها في البداية، ولا تزال تطبق على نحو واسع، في مجال الهندسة.

وقد انتقد "كيرت دوكاس" بحدة عبارة "الفلسفة أشمل من العلم"، حيث أكد أن الفيلسوف لا يفسر العلاقات بين العلوم المختلفة، غير أن هذا النقد لم يعد ذا جدوى بفضل نظرية الأنظمة التي تستطيع أن تقدم لغة مشتركة للعلوم المختلفة، بل ويمكن لهذا الجهد الفلسفي الساعي إلى تحقيق التكامل بين مختلف العلوم أن يحقق المزيد من التقدم في ضوء هذه النظرية.

كذلك، فإن النماذج الرياضية القائمة على قوانين الفيزياء تستخدم اليوم بشكل تقليدي للتنبؤ بسلوك نظام ما عبر مجموعة من الأدوات والمقايييس والشروط الأولية. والحقيقة أن هذه النماذج لا تتعدى أن تكون نماذج اختزالية تم تطويرها باستخدام أدوات تحليلية (تقوم بتفكيك المشكلة إلى عدة مشكلات بسيطة). ولكن، عندما تصير الأنظمة أكثر تعقيدا، وتتزايد أعداد التفاعلات، فإن الحل التحليلي البسيط الرياضي يصبح غير ذي جدوى؛ وعندها يمكن الاعتماد على عمليات المحاكاة الحاسوبية للتنبؤ بسلوك الأنظمة المعقدة. وتقوم هذه العمليات على تقسيم المكان (طرق العناصر المحدودة) و/ أو الوقت (طرق المحاكاة)، وعندئذ نستطيع إجراء عملية المحاكاة لعدة مرات، مع تغيير المقاييس في كل مرة، في محاولة للوصول إلى توجه عام ما. والحقيقة أن  عمليات المحاكاة الحاسوبية أصبحت اليوم ضرورة لا غنى عنها لتصميم أنظمة وبنى حديثة.

لقد اثبتت نظرية الأنظمة، وما يرتبط بها من تقنيات النمذجة وعمليات المحاكاة الحاسوبية، نجاحات فائقة في مجال الهندسة، ولكن تبقى هنالك العديد من أوجه القصور عند التعامل مع الأنظمة غير النماذجية بالغة التعقيد. ففي حالة الأنظمة الفوضوية، مثلا، تكون إمكانية التنبؤ بالسلوك محدودة للغاية. وعلى المستوى الأعم، تصبح المقاربة النوعية هي المنهجية الأنسب في حال عدم توافر النماذج الرياضية؛ وهنا يبرز دور المنظور العام لحل المشكلة في إتاحة الفرصة لبناء وتوضيح هذه المقاربة بشكل منطقي. 

ب‌-    مقاربة حل المشكلة:

وفقا لنظرية الأنظمة وعلم الضبط، يمكن تعريف المشكلة بأنها "الفجوة التي تفصل العنصر عن الحالة المثالية التي يحب أن يكون عليها" ويمكن حل هذه المشكلة عن طريق سلسلة من السلوكيات والأفعال التي من شأنها أن تقليل الفارق بين الحالة المبدئية والحالة المثالية المفترضة. وقد قام "إلياهو جولدرات" بصياغة ما يعرف ب "نظرية القيود"، حيث قدم مجموعة من الأدوات التي تعين المؤسسات على تحقيق أهدافها. وتسمح هذه النظرية برسم خارطة للبنية المنطقية للمشكلات، والتي من شأنها أن تعين على تحديد المواضع التي تظهر فيها الخلافات؛ وتتميز هذه النظرية بقابليتها للتطبيق وتحقيق نتائج باهرة في مختلف الفروع، حيث أنها أشبه بأدوات عامة لحل المشكلات.

وقد أدرك "كارل بوبر" أهمية منظور حل المشكلة في البحث العقلاني حيث قال "إن كل نظرية عقلانية، سواء كانت علمية أو فلسفية، هي عقلانية بمقدار سعيها  لحل مشكلات محددة. فالنظرية تكون مفهومة ومنطقية فقط في ضوء علاقتها بسياق إشكالي بعينه، ولا يمكن مناقشتها عقلانيا إلا في ضوء هذه العلاقة." إن العديد من مشكلاتنا تنضوي على أبعاد مختلفة وتتضمن طبقات متعددة من "واقعنا"؛ فالمشكلة المتعلقة بالبيئة، على سبيل المثال، تأخذ في الاعتبار دائما المعلومات الخاصة بعلوم الكيمياء (المبيدات الحشرية، إلخ) والأحياء (الجينات الوراثية) وعلم المناخ، دون التطرق إلى الأبعاد السياسية والاقتصادية والأخلاقية والفلسفية. ولإيجاد الحل الناجع لمشكلة على هذه الدرجة من التعقيد، لا بد من أخذ السياق الضروري للمشكلة بعين الاعتبار، أو ما يطلق عليه بوبر "السياق الإشكالي". من هنا تنبع الحاجة لمقاربة متعددة الاختصاصات؛ ومع المزيد من المشكلات، يصبح من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل، أن يحصر الإنسان نفسه في اختصاص بعينه أو طبقة بعينها من طبقات الواقع.

ومع الاستعانة بمنظور حل المشكلة، تتلاشى الحدود وتذوب الفواصل بين العلوم المختلفة؛ ويتعين علينا عند مواجهة مشكلة معقدة أن نستخدم كل المصادر الممكنة للتعاطي معها؛ وهكذا يتحول مكمن الصعوبة إلى مدى القدرة على التواصل مع علماء من اختصاصات مختلفة؛ وهنا تبرز من جديد تلك الحاجة إلى بذل الجهد للوصول إلى لغة علمية مشتركة، إن الحد الأدنى من المعرفة، بحسب نظرية الأنظمة، سيكون له ما له من الفوائد في تقديم العون للعلماء ذوي الخلفيات العلمية المتباينة للتواصل .

إن عمليات التجسير بين العلوم الكمية والبيولوجية من جانب، والعلوم الإنسانية من الجانب الآخر يمكن تحقيقها أو استنتاجها عن طريق الجهود الساعية لحل المشكلات في المساحة المشتركة بينهما، ومن هذا المنطلق، يمكن تصوير النشاط العلمي كخارطة تحديات، أو مشكلات (نظرية أو عملية)، يتم حلها أو التعاطي معها، عوضا عن خارطة الاختصاصات التقليدية التي كانت موجودة قبلا.

ج- نظرية التطو:

لا شك أن الفكرة العامة لعملية النشوء والاتقاء التي عبر عنها "داروين" من خلال مفهوم الانتخاب الطبيعي قد لاقت رواجا كبيرا في كافة فروع العلم تقريبا، ويدل على ذلك بجلاء تعدد الاختصاصات من شاكلة "علم النفس التطوري"، الذي يتعاطى مع الصفات العقلية والنفسية من منظور ارتقائي تطوري. ولا يختلف ذلك في كثير عن "علم الأخلاق التطوري" الذي يركز على مظاهر الصفات الأخلاقية؛ ثم "علم الاقتصاد التطوري" الذي يؤكد على التفاعلات المعقدة والمنافسة والقيود على الموارد؛ و"الإبستمولوجيا التطورية" التي تؤكد على إمكانية إدراك المعرفة من خلال عملية الانتخاب الطبيعي؛ و"الحساب التطوري" كأحد تجليات العمليات التطورية لتصميم أنواع جديدة من الرياضيات؛ و"الداروينية العصبية" في علم الأعصاب، والتي تم طرحها لتفسير تطور الدماغ؛ كذلك شهد مجال علم الكون ميلاد نظرية "الانتخاب الطبيعي الكوني".

وهكذا، فقد تجاوزت فكرة التطور حدود التطور البيولوجي لتصير نظرية عامة في التغيير. ومن أمثلة ذلك، تاريخ الكون الذي كتبه "إريك شيسون" على أساس المكتشفات العلمية، والتي كانت فكرة التطور الباعث الأول على التوصل إليها. ويُعًرف "شيسون" هذه الفكرة على أنها "كل عملية تكوين ونمو وتغيير تجري في إطار الزمن، بما في ذلك عملية تراكم المعرفة التاريخية، فهي تشمل في معناها الواسع  كل تغيير تطوري وتوليدي." وهذا الوضع لا ينبغي أن يدهشنا، لأن التفكير من منظور تطوري يعني ببساطة التفكير المُستغرَق في الزمن، أو بتعبير أدق، كيفية تمخض أي نوع من البنى أو الوظائف الجديدة عن عمليات تفاعل تحدث في إطار الزمن.

جوانب القصور في رؤى العالم العلمية

يبقى أن ندرك بعض جوانب القصور في رؤى العالم التي تتسم بالعلمية الصرفة. لقد رأينا كيف أن الهدف التقليدي للعلم بنصب على نمذجة العالم، أو ،بعبارة أخرى، تقديم الإجابات على الأسئلة الثلاث الأولى المتعلقة برؤية العالم. وفي هذا السياق يمكننا ملاحظة ضعف الرؤية الدينية للعالم عند تعاطيها مع هذه الأسئلة، وذلك بسبب تركيزها على الأسئلة الثلاث الأخيرة. وعلى الجانب الآخر، فإن على الرؤية العلمية للعالم أن تهتم بدمج النموذج الذي تقدمه مع المشكلات ذات النزوع الفلسفي العميق والمتعلقة بطبيعة ومعنى القيم والأفعال والمعرفة (الأسئلة 4 و5 و6 على التوالي). وهنا نؤكد أن هذه الأسئلة ليست قاصرة على البحث الفلسفي، إلا أنها تبقى غير ذات أهمية من وجهة نظر منظور حل المشكلة. والحقيقة أن هناك مجالات أخرى تتعاطى بشكل مباشر مع هذه الأسئلة، ف "علم الأخلاق التطوري" يتعاطى مع السؤال الرابع، و"الإبستمولوجيا التطورية" مع السؤال السادس، فضلا عن الكثير من أدبيات الإدارة التي تتعاطى مع "كيف نتصرف" وهو موضوع السؤال الخامس.

وعلينا أيضا، كما أشار "تشارلي دنبار برود"، أن نوضح أن اللاعلمية لا تقتضي بالضرورة غير العلمية: فعلينا أن نميز بين كوننا لا علميين أو غير علميين. إن ما أعترف به هو أن الفلسفة موضوع لا علمي بطبيعته، إلا أن ذلك لا يقتضي بالضرورة وصمها بغير العلمية، حيث لا تُطلق هذه الصفة إلا عند التعامل مع موضوع قابل للتعاطي العلمي بطريقة تتجاهل أو تصطدم مع مبادئ الطرق العلمية.

الخلاصة

عرضنا خلال هذا البحث لتعريف أبوستل لرؤية العالم، وضربنا أمثلة للعديد من الرؤى، وخلصنا من ذلك إلى نتيجة مفادها أن ثمة ضرورة تطورية ونفسية واجتماعية لأن يكون لدينا رؤية؛ واقترحنا بعد ذلك ثلاث مقاربات أساسية نحتاج إليها لصياغة رؤية علمية متكاملة للعالم، الأولى: نظرية الأنظمة العامة، والتي تمدنا بمفاهيم تتسم بقدر من العمومية يسمح باتخاذ خطوة ضرورية في اتجاه الوصول إلى لغة عامة مشتركة بين العلوم. أما الثانية: منظور حل المشكلة، فتساعد على تجسير الهوة بين العلوم المختلفة من خلال التركيز على مشكلة بعينها، واستخدام ما نحتاج إليه من الموارد العلمية لمجابهة التحدي القائم. وأخيرا: نظرية التطور العام (الذي يتجاوز حدود التطور البيولوجي) والذي يفسر لنا عملية تغير الأنظمة في إطار الزمن. واختتمنا ببعض الملاحظات المتعلقة بجوانب القصور التي تعاني منها الرؤى العلمية الخالصة، وأكدنا أن الرؤية العلمية يجب أن تاخذ الأبعاد الفلسفية لأي رؤية أخرى بعين الاعتبار.

تنشر هذه الدراسة نشرا مشتركا في إطار التشبيك بين موقع أون إسلام ومسلم أون لاين.

Developed by